الأربعاء، 12 أغسطس 2015

حول إعادة تشكيل العقل المسلم | عماد الدين خليل



يستهل الكاتب بطرح السؤال الآتي: ما الذي أصاب العقل المسلم؟ كيف ضربه العقم بعد التوهج والإبداع؟
إن المسلم هو نسيج وحده؛ عقلًا، وروحًا، وجسدًا، ووجدانًا.

         لقد أُريد للعقل المسلم أن يظل متوهجًا منذ لحظة الوعي الأولى، حتى اللحظة التي يطفئه فيها برد الموت. وليس ثمة ما يقف في طريق امتلاك ناحية التغيير الذاتي، كالرؤية التجزيئية أو الموقف النصفي.. فقد فهم كثير من المسلمين عملية التغيير فهمًا خاطئًا، وتصوروها مجرد تجديد للتوثب الروحي فقط، أو إعادة التزام بحشد من القيم الخلقية أو السلوكية التي دعا إليها الإسلام.
إن الدعوة إلى إعادة صياغة العقل المسلم دعوة مزدوجة ذات بعدين:
·        تصحيح التصور؛ تصور شامل ورؤية متوازنة.
·        وتخليص العقل؛ من النظرة التجزيئية النصفية.
وترتيب الشخصية المسلمة وصياغتها وفق معطيات الكتاب والسنة؛ لتجيء شخصية متفردة متميزة قادرة على العطاء، ووضع الضوابط الصارمة للتصور والسلوك، كان من القضايا المحورية التي تركز عليها كثير من الأحكام، والتدريب عليها من خلال العبادات والطاعات.
إن العقل البشري أعيد تشكيله على المستويات كافة، وكان قديرًا حقًا بتلبية النداء، قديرًا على التحقق بمعطياته. (كل مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)
فكيف تمت الاستجابة؟! .. إن الإسلام منح المنتمين إليه قدرات إضافية؛ لتجاوز حيثيات الزمان والمكان. إنه المسلم الذي يبدأ بـالإسلام وينتهي بـالإحسان مرورًا بـالإيمان والتقوى. يصفهم القرآن (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) فنحن بصدد مؤشرين للسرعة؛
                                     1- المسارعة.                                     2- السبق.
الغربيون يتفوقون اليوم بأشياءٍ كثيرة؛ من أبرزها: قدرتهم على الركض إلى الهدف، والمسارعة في الإنجاز، والسبق إلى كل ما هو أكبر وأكثر غناءً. ولن يكون بمقدورنا أن نصل إلى مواقعهم؛ ما لم نتحقق بالشرط نفسه، وهو ليس تقليدًا، بل نرتد إلى أصولنا؛ لنعرف كيف يكون السبق الحضاري والتحقق والإبداع. ينطلق المسلم فردًا وجماعةً، وصولًا إلى الأهداف المرتجاة والرسالة التي أوجده الله من أجل تحقيقها.
وتُعد أولى التحولات التي نفذها الإسلام إزاء جيل الروَّاد من الصحابة؛ هي النقلة التصورية الاعتقادية التي تمثل القاعدة التي انبنت عليها سائر التحولات، فقد حررت العقل وكرمته، ووضعته في موقعه الصحيح؛ من حيث، تحويل التوجه الإنساني من التعدد إلى الوحدة، وكسر الحاجز المادي باتجاه الغيب. فتمكن العقل من التحقق بقناعات تعلو على معطيات الحس القريب.
والنقلة الثانية هي النقلة المعرفية؛ منذ الكلمة الأولى في كتاب الله نلتقي بحركة التحول المعرفي (اقرأ). ليس عبثًا أن تكون الكلمة الأولى، وليس عبثًا أن تتكرر، وليس عبثًا أن ترد كلمة علم بالقرآن، وأن يُشار بالحرف إلى القلم أداة التعلم. نحن نجد كل نداءات القرآن الكريم منبثقة من فعل القراءة، والتفكر، والتعقل، والتفقه، والتدبر.. . فيجد العقل المسلم نفسه مُلزمًا بمنطق الإيمان نفسه، أن يتحول وأن يتشكل من جديد؛ لكي يتلاءم مع التوجه المعرفي للدين الجديد.
إن الإسلام يسعى إلى تكوين بيئة عمل وإنجاز، وتمكَّن من ذلك فبعث أمة أنارت الطريق للبشرية يوم كانت تدلج في ليلٍ بهيم.
أما النقلة الشاملة فهي النقلة المنهجية؛ والتي تؤدي دورًا خطيرًا في حركة الإنسان الفكرية والحضارية بشكل عام. فقد أكد القرآن الكريم على الأسلوب الذي يعتمد البرهان، والحجة، والجدال الحسن؛ للوصول إلى النتائج الصحيحة، القائمة على الاستقراء، والمقارنة، والتمحيص، استنادًا إلى المعطيات الحسية الخارجية، والقدرات العقلية التي تعرف كيف تتعامل معها، هكذا؛ يبدو العلم بمفهومه الواضح الشامل.
إن النتيجة الحتمية لتلك التحولات عقيديًا ومعرفيًا ومنهجيًا؛ تشكل عقلًا جديدًا قادرًا على الاستيعاب، والفعل والإضافة، والإبداع. فالتحول الحضاري الذي نفذه المسلمون إنَّما جاء ثمرة للعقلية التي صاغها الإسلام، فقد فتح العرب أبوابهم على اتساعها؛ لاستيعاب المعارف والثقافات القديمة؛ مما قاد إلى نهضة كبرى. وأهم دوافع ذلك؛ هو حث الإسلام على المعرفة، ودعوته لتلقي العلم، وتحويل القيم والأفكار إلى واقع منظور، وتجربة معاشة، وخبرات تتشكل حية نامية.
لقد كان التوجه الحضاري في القرآن الكريم يمتد إلى ما قبل أدم، فبناء الكون، وتهيئة الظروف، والأرضية الصالحة للحياة؛ إنما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدور المنتظر الذي بعث الإنسان لكي يؤديه، وبذلك نلتقي من خلال الرؤية الإسلامية بصيغةٍ أخرى للعلاقة بين الإنسان والعالم تختلف من أساسها؛ صيغة السيد الفاعل المريد، الذي سخرت وأخضعت له مسبقًا كتلة العالم والطبيعة؛ لتلبية متطلبات خلافته في الأرض وإعماره للعالم.
لقد أراد الله للإنسان أن يكون خليفته في الأرض؛ فمنحه القدرة العقلية على التعلم، والمقدرة الجسدية على التنفيذ، والعمل، والإبداع؛ لاختيار أسلوب الحياة الأمثل. وتلك أسس تقود إلى تصور دور الإنسان في العالم، لأي إبداع حضاري فعال، هادف، متطور على الأرض. فالدين هو منهاج شامل للحياة، يتحرك الإنسان وفق توجهاته وأهدافه، ويمارس استخلافه وفق تعاليمه، ومعطياته. ويمنح التجربة الحضارية طابعها الخاص، وملامحها المميزة التي تتجسد في::
روح العمل والإبداع: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) إن الدور الحضاري للإنسان المسلم يقوم على العمل والإبداع المتواصلين؛ لإعمار العالم. وهذا هو المحور الأساسي لوجوده على الأرض، وهو الذي يتخذ مقياسًا عادلًا لتحديد مصيره في الدنيا والآخرة. فالموت والحياة ابتلاء.
التوازن بين الثنائيات وتوحدها: فقد جاء الإسلام برؤية شاملة متوازنة؛ تضم كل ما هو روحي أخلاقي، ومادي جسدي، ويدعو إلى حضارة  تنمو وتزدهر على كل المستويات؛ الروحية، والاخلاقية، والطبيعية. بشرط أن تضبطه المعايير، والقيم الدينية الآتية من عند الله، فالرؤية الإسلامية ترفض الإزدواجية والثنائية.
التوافق مع الطبيعة والعالم والكون: العالم سُخر لخدمة الإنسان، ومساعدته على الرقي الحضاري. فالعلاقة بينهما ليست بالضرورة غزو، وصراع. بل انسجام، ووفاق، ووئام.
الميزة التحررية: الإسلام منذ اللحظة الأولى عملًا تحرريًا على المستويات كافة؛ فقد حرر الإنسان من الضلالات والأوهام، ومن الخوف والجهل، ومن الخضوع والفوضى، وحرر رغباته، وأشواقة الجسدية والروحية، وفتح الطريق أمام نوازعه ودوافعه وحاجاته، برؤية توازنية أصيلة، وبقواعد عادلة.
إن حياة الإنسان على الأرض ليست أبدية دائمة، ومعطياته فيها ليست باقية خالدة. إنما هي مُعَرَّضةٌ للدمار والزوال؛ بناءً على طبيعة الحياة الدنيا. أما الحياة الحقيقية، فهي الحياة الأخرى، كتب للإنسان فيها الخلود المطلق. لذا؛ فكل ما يقدمه الإنسان في هذه الحياة، يجب ألا يكون هدفًا بحد ذاته، وإنما وسيلة. ويغدو الإنجاز الحضاري هكذا وسيلةٌ لغاية أكبر.
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)
لقد منحنا الإسلام مفتاحين للخلاص، كلَّما وجدنا أنفسنا مدفوعين إلى مناطق العتمة والظلام:
1-              التغيير الذاتي .                   2- الإعداد الذاتي.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) إن تأكيده على قانون التغيير هذا؛ يعني أنه يمنح الإرادة البشرية المؤمنة فرصتها في صياغة المصير، وهو ينصب على الذات المسلمة في إطارها الفردي.
أما الإعداد؛ فهو ينصب على الجماعة المسلمة لحماية الذات المؤمنة من الحصار، والتضييق في العالم. بشحذ طاقات الإنسان المسلم، وإعادة تشكيل عقله كما أراد له الإسلام أن يكون؛ ليتمكن من أداء دوره في هذه الأرض مع الجماعة، فنحن المسئولون عن هزائمنا وتخلفنا الحضاري والمفاتيح عندنا أولًا وأخيرًا.


إعداد المغيرة / سارة عمر 

هناك تعليق واحد:

  1. جزاكم الله خيراً على هذا التعريف الوافي بكتاب د.عمادالدين خليل ، حول إعادة تشكيل العقل المسلم .

    ردحذف