الجمعة، 16 يناير 2015

القرآن محاولة لفهم عصري|مصطفى محمود



مقدمة:

إن هذا الكتاب يحاول طرح استفهامات حول قضايا القرآن والتفكر فيها، وذلك من خلال وجهة نظر عصرية؛ ليست مستحدثة، وإنما تنظر إلى القرآن في ضوء أحدث ما توصل إليه العلم الحديث، وآخر ما توصل إليه الفكر الإنساني في هذا العصر، من وجهة نظر كاتبها من خلال علمه واجتهاده واطلاعه. وقد كثر الكلام من الآيات الكونية التي تحدثت عن النجوم ومساراتها،والأرض وخلقها والحياة وبدايتها،وكيف جاءت العلوم الحديثة بالجديد المبهر من الحقائق خلال مئات السنين التي أعقبت التنزيل القرآني، ترافقت جميعها مع كلام القرآن وزادته توكيدًا. كما جاء القرآن في نظم الحكم وفي الاقتصاد وفي الأخلاق وفي حقوق الإنسان وفي الأسرة وفي الزواج والمرأة والشرائع بالكلمة النهائية الجامعة، وانفرد بذروة في البلاغة وقمة في البيان وجمال في الأسلوب لم يطاوله فيه كتاب. فيظل هذا الوجه معجزًا ربما كان أهم من كل هذه الوجوه، وهو ما أسماه بالبنية  أو التركيب القرآني. (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيْهِ اخْتِلَافًا كَثِيْرًا)،
يناقش الكتاب على عدة قضايا وإشكالات حار العقل البشري في الحسم فيها، من خلال القرآن وبالقرآن، ولم يتوصل أحد إلى إجابات شافية أو تفسيرات كافية لها أولها الإعجاز القرآني ذاته (المعمار القرآني) وعدة قضايا أخرى تشمل؛(مخير أم مسير)(قصة الخلق)(الجنة والنار)(الحلال والحرام)(العلم والعمل)(أسماء الله)(رب واحد ودين واحد)(الغيب)(الساعة)(البعث)(لاكهنوت)(لا إله إلا الله)(لماذا إعجاز القرآن؟).
المعمار القرآني:يتحدث فيه عن إعجاز البناء والتكوين القرآني، وكيف وقع على مسامعه وحار في وصف الشعور الذي تلقى به أول عبارة منه (والضُّحَى واللَّيْل إذَا سَجَى) تسعى العبارة إلى الخيال وكأنها مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة.  إنه سر عميق من أسرار القرآن الكريم النغم الموسيقي الباطني للعبارات والكلمات. طريقة محيرة، وتبرز مع الموسيقى صفة أخرى هي الجلال؛ كل لفظ له ثقل الجبال، بجانب الصور القرآنية التي تنبض بالحياة، كأنها مرئية ومسموعة وحية، تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تلامس الأذن وقبل أن يتأمل العقل معانيها. لذا فهو لا يمكن أن يترجم، إنه القرآن في لغته (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا) وكيف يمكن أن نترجم (الرَّحْمَن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)؟! فنحن لسنا أمام معنى فقط بل أمام تكوين وبنيان ومعمار فريد .. ظاهرة متعالية معزولة عن النفس البشرية، فهو لفظًا ومعنى من الله أحاط بكل شيء علمًا.
مخير أم مسير:من المشكلات الأزلية التي يقف العقل أمامها وتناولها القرآن؛ مشكلة الحرية؛ هي ثغرة كبيرة يدخل منها الشك وهواة الجدل من الملحدين. فإذا كان كل شيء مقدر من الله فكيف نحاسب؟! وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا جاء ذكر القدر فأمسكوا) فضل الإيمان بالقلب على الثرثرة العقلية العقيمة. ولغز علاقة الإنسان بالله وعلاقة حرية الإنسان بالإرادة الإلهية المطلقة؛ فلأن القرآن كتاب دين وليس كتاب فلسفة يعطي ومضات ويكتفي بالرمز والإشارة لهذا الإشكال الأزلي. المبادرة بالنية حرة تمامًا يبدأ التدخل الإلهي لحظة خروج النية إلى حيز الفعل فيعطي الله كل إنسان تيسيرات من جنس نيته ومن جنس ضميره وقلبه، وهو عين العدل (وَإِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم) فأنت تختار وتشاء وهذه القدرة منحة من الله سبحانه.
قصة الخلق:(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق) قضية الخلق مازالت من أمور الغيب وهي محل نظر واجتهاد ونحن مأمورون بذلك،وقد وقف داروين أمام ظاهرة الترقي مفكرًا، وقال أن الأنواع انحدرت كلها من أصل واحد، ونحن أمام إجماع أن الحياة بدأت من الماء ومبدأ الكون من الهواء هذا ما أخبر به العلم. أما القرآن (ما يعلم تأويله إلا الله) ماذا قال عن قصة الخلق؟ (ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِي دُخَان)( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيّ) (والله خَلَقَ كُل دَابَةٍ مِنْ مَاءٍ)، وتأتي حكاية التطور في كثير من الآيات من طين ثم ماء مهين ثم نفخ.
الجنة والجحيم:هي أمور غيبية، يقر بها الله لنا بأمثلة من واقع الحياة؛ (مَثَلُ الجَنَّة الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُون فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرُ آسِنٍ وأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٌ للْشَارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى).
أما الجحيم فلا هو بالحياة ولا هو بالموت، وهو لا يتنافى مع رحمة الله بل هو عين العدل (أيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدَى) (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُم وَآمَنْتُم).
الحلال والحرام:يحلل الله كل ما هو طيب ويحرم كل ما هو خبيث، فالله هو العقل الكلي المحيط لا يضع سنة بلا سبب، وإنما لمنع ضرر أو تنبيهًا لفائدة وليس تعسفًا وتسلطًا وتضييقًا وممارسة للألوهية.
العلم والعمل:نزلت كلمة (اقرأ) قبل الصلاة والصيام والشرائع (اِقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق) فهو علم بالله ولله، علم مقترن بالعمل. علم وعمل وإيمان وبناء، فالدنيا هي الفرصة الوحيدة للأعمال، هي الامتحان الذي لا امتحان بعده (وَوَجَدُوْا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الَّذِي خَلَقَ الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمًلا).
أسماء الله:مستحيل معرفة ذات الله وكنهه فهو المتعال (ليس كمثله شيء) (يجادلون في الله وهو شديد المحال) ويقدم لنا القرآن أسماء الله وصفاته، واسم (الله) هو اسم عَلَم على الذات الإلهية  السر المطلسم لا خوض فيه.
رب واحد ودين واحد:يقرر القرآن وحدة الله المطلقة، وجميع الكتب السماوية كتب توحيد؛ فالدين واحد من ناحية العقيدة، أما من ناحية الشرائع (فلكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا) فالأديان كلها إسلام لله والأنبياء كلهم مسلمون.
الغَيب:انفرد القرآن يتقديم سور طويلة من الغيب المحجب؛ ويتركنا أمام اختيار صعب؛ في أن نصدق أو نكذب، نؤمن أو نكفر حقائق بلا قرائن ملموسة، وذلك تفضلًا إلهيًا وامتحان لعمق الإيمان (الذين يؤمنون بالغيب).
الساعة:هي علم محجوب اختص به الله لنفسه والقرآن يحدثنا عن أشراطها وعلاماتها فقط (انشقاق القمر ونفخة الصور ويأجوج ومأجوج) تنسف الجبال خشوعًا لله (وأشرقت الأرض بنور ربها) وكلنا يومئذ نقوم للحي للقيوم.
البعث:(إنك ميت وإنهم ميتون) فيها عنف يوقظ الإحساس، كل واحد منا يحمل جثته على كتفه، فلم يقل ستموت. فالموت حاضر في كل لحظة ومؤجل في ذات اللحظة، والنوم ثم اليقظة نموذج مصغر للموت ثم البعث.
لا كهنوت:القرآن حاسم وقاطع في إلغاء الوساطة بين العبد وربه (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) والصلاة هي الصلة التي أمرنا الله بها لنفع المخلوق، لنستمد منها الحياة، وليس ممارسة للألوهية فالله غني عن العالمين.
لا إله إلا الله:لا موجود بحق سواه، فأنا وأنت وهم ونحن كلنا مجرد صور تبرق وتختفي على شاشة الوجود. ويتراكم الموتى بعضهم فوق بعض ترابًا، وتضيع الحقائق وأصحابها فالكل إلى الموت ولا حي إلا الله، منه ينبع الكل وإليه يعود. ولا إله إلا الله هي كلمة التوحيد، وهي قلب القرآن وقلب العقائد كلها، هي كلمة التقوى وتسبيحة الملائكة في الملأ الأعلى، ومن يقولها ويتمثل معناها فقد امتلك الدين كله.
لماذا إعجاز القرآن؟! :القرآن حافل بالنبوءات ما تحقق في وقته وما هو في انتظار ميعاده. والقرآن إذا لجأ إلى الجدل فهو يجادل في بساطة ويقيم الحجة في إحكام. والذين يكتبون عن إعجاز القرآن يعدون؛ تنبؤ القرآن بما لا نعلم من أمور المستقبل، ورواية القرآن من أمور الماضي، والموافقات العجيبة مع علوم العصر المتأخرة، بجانب إحاطته بكل ما يشكل حياتنا من أمور؛ الحكم والسياسة والتشريع والمعاملات، وما وراء الطبيعة والأخلاق. ولكن؛ إعجاز القرآن الأول: هو ما يستثيره في القلب من إحساس غامض، عزف بلا آلات أو بحور (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا لها سجدًا وبكيًا) إحساس غامض بالخشوع قبل أن يتيقظ العقل، ظاهرة لا تفسير لها فهو معجزة في ذاته. (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافًا كبيرًا) (كتاب أحكمت آياته).

إن هذا العرض المختصر لا يشفي ولا يكفي، فالكتاب يحتاج إلى إعادة القراءة مرات ومرات، يفتح الله على من يشاء من عباده بالهدى والتقوى والإرشاد، أتمنى أن  لا أكون بخست الكتاب حقه بتلخيصي المختصر له.


عمل المغيرة /سارة عمر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق